فصل: تفسير الآيات (16- 25):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.سورة الحجر:

.تفسير الآيات (1- 5):

{الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)}
قلت: رُب: حرف جر، تدل على التقليل غالباً. وفيها ثماني لغات: التخفيف، والتثقيل مع ضم الراء وفتحها بالتاء، وتدخل عليها (ما) فتكفها عن العمل، ويجوز دخولها حينئذٍ على الفعل، ويكون ماضياً، أو منزلاً منزلته في تحقيق وقوعه، وقد تدخل على الجملة الاسمية؛ كقول الشاعر:
رُبَّمَا الجَامِلُ المُؤَبَّلُ فِيهمْ ** وَعَناجِيجُ بَيْنَهُنَّ المِهَارُ

وجملة: {إلا ولها}: صفة لقرية، والأصل ألا يدخلها الواو، كقوله: {إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ} [الشعراء: 208]، لكن لما شابهت صورة الحال دخلت عليها؛ تأكيداً لوصفها بالموصوف.
يقول الحق جل جلاله: أيها الرسول المعظم، {تلك} الآيات التي تتلوها هي {آياتُ الكتاب} الذي أنزلناه إليك، {و} آيات {قرآنٍ} عربي {مبينٍ}؛ واضح البيان، مبيناً للرشد والصواب، فمن تمسك به وآمن بما فيه كان من المسلمين الناجين، ومن كان تنكب عنه وكفر به كان من الكافرين الهالكين، وسيندم حين لا ينفع الندم، كما قال تعالى: {رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ}: متمسكين بما فيه حتى يكونوا من الناجين. وهذا التمني قيل: يكون عند الموت، وقيل: في القيامة، وقيل: إذا خرج العصاة من النار، وهذا أرجح؛ لحديثٍ في ذلك. ومعنى التقليل فيه: أنه تدهشهم أهوال يوم القيامة، فإن حانت منهم إفاقة في بعض الأوقات تمنوا أن لو كانوا مسلمين.
قال تعالى: {ذرهم}: دعهم اليوم {يأكلوا ويتمتعوا} بدنياهم {ويُلهِهمُ الأملُ}: ويشغلهم توثقهم بطول الأعمار، واستقامة الأحوال، عن الاستعداد للمعاد، {فسوف يعلمون} سوء صنيعهم إذا عاينوا جزاؤهم. والأمل للتهديد، والغرض: حصول الإياس من إيمانهم، والإيذان بأنهم من أهل الخذلان، وأنَّ نصحهم بعد هذا تعب بلا فائدة. وفيه إلزام الحجة لهم. وفيه التحذير عن إيثار التنعم، وما يؤدي إليه طول الأمل من الهلاك عاجلاً وآجلاً، ولذلك قال تعالى بُعد: {وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتابٌ معلوم} أي: أجل مقدر كتب في اللوح المحفوظ، {ما تسبق من أمة أجلها}؛ أي: أجَل هلاكها، {وما يستأخرون} عنه ساعة، وتذكير الضمير في {يستأخرون}؛ للحمل على المعنى، لأن الأمة واقعة على الناس. والله تعالى أعلم.
الإشارة: انظر هذا التهديد العظيم، والخطر الجسيم لمن تمتع بدنياه، وعكف على حظوظه وهواه: {ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون}. ولله در القائل:
تَفَكَّرتُ فِي الدُّنيا وفي شَهَواتِها ** ولَذاتِها حَتَّى أَطَلْتُ التَّفَكُّرَا

وَكيْفَ يَلَذُّ العَيشُ مَنْ هُو سَالِكٌ ** سَبِيلَ المَنَايا رائِحا أوْ مُبكِّرا

فَلاَ خَيْرَ في الدُّنْيَا ولاَ في نَعِيِمهَا ** لحُرِّ مقلِّ كانَ أوْ مُكْثِرا

.تفسير الآيات (6- 9):

{وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)}
يقول الحق جل جلاله: {وقالوا}؛ أي: كفار قريش: {يا أيها الذين نُزِّل عليه الذكْرُ} في زعمه، أو قالوه تَهكماً، {إنك لمجنون} أي: إنك لتقول قول المجانين، حين تدعي أنه ينزل عليك الذكر، أي: القرآن. {لَوْ مَا}: هلا {تأتينا بالملائكة} ليصدقوك فيما تدعي، أو يعضدوك على الدعوى، أو للعقاب على تكذيبنا {إن كنت من الصادقين} في دعواك، قال تعالى: {ما نُنزّلُ الملائكة}؛ لعذابهم أو لغيره {إلا بالحق} من الوحي، والمصالح التي يريدها الله، لا باقتراح مقترح، أو اختبار كافر، أو: إلا تنزيلاً ملتبساً بالحق، أي: بالوجه الذي قدره في الأزل، واقتضته الحكمة الإلهية، وهو أنه لا تنزل إلا باستئصال العذاب، وقد سبق في العلم القديم أن من ذريتهم من سبقت كلمتنا له بالإيمان، أو يراد بالحق: العذاب، ويؤيده قوله: {وما كانوا إذاً منظَرين}؛ أي: ولو نزلت الملائكة لعوجلوا، وما كانوا، إذا نزلت، مُؤخرين عن العذاب ساعة.
ثم رد إنكارهم نزولَ الذكر واستهزاءَهُمْ فقال: {إنا نحن نزلنا الذَّكَر}؛ أي: القرآن، وأكده بأن وضمير الفصل، وحفظه بعد نزوله، كما قال: {وإنا له لحافظون} من التحريف، والزيادة، والنقص، بأن جعلناه معجزاً، مبايناً لكلام البشر، لا يخفى تغيير نظمه على أهل اللسان. قال القشيري: نزل التوراة، وَوَكَلَ حفظها إلى بني إسرائيل، بما استحفظوا من كتاب الله، فحرَّفوا وبَدَّلوا، وأنزل القرآن، وأخبر أنه حافظه، فلا جرم أنه كتاب عزيز، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ويقال: إنه أخبر أنه حافظ القرآن، وإنما يحفظه بقرائه، فقلوبُ القُرَّاءِ هي خزائنُ كتابه؛ وهو لا يضيع حفظة كتابه، فإن في ذلك تضييع كتابه. اهـ.
وقال ابن عطية على قوله: {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} [البقرة: 75] ذهبت جماعة من العلماء إلى أنهم بدلوا ألفاظاً من تلقائهم، وأن ذلك ممكن في التوراة؛ لأنهم استحفظوها، وغير ممكن في القرآن؛ لأن الله تعالى ضمن حفظه. اهـ.
الإشارة: كل ما جاء في القرآن من الإنكار على الرسل على أيدي الكفرة وتنقصيهم، والاستهزاء بهم، ففيه تسلية لمن بعدهم من الأولياء. وكذلك ما ذكره الحق تعالى من مقالات أهل الجهل في جانبه؛ كقوله: {لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ} [آل عمران: 181]، وقوله: {وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64]، إلى غير ذلك من مقالات أهل الجهل، فكأن الحق تعالى يقول: لو سَلِم أحد من الناس، لسلمتُ أنا وأنبيائي، الذين هم خاصة خلقي، فليكن بي وبرسلي أسوة لمن أُوذي من أوليائي. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (10- 15):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)}
يقول الحق جل جلاله: في تسلية رسوله عليه الصلاة والسلام {ولقد أرسلنا مِن قبْلِكَ} رسلاً {في شِيَعٍ}: فرق {الأولين} أي: القرون الماضية، جمع شيعة، وهي: الفرقة المتفقة على طريق واحد، وتتشيع لمذهب أو رجل، من شاعه إذا تبعه، أي: نبأنا رجالاً فيهم، وجعلناهم رسلاً إليهم، فكذبوهم واستهزؤوا بهم، فكانوا: {ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون} كما يفعل بك هؤلاء المجرمون.
{كذلك نَسْلُكُه} أي: ندخل الاستهزاء {في قلوب المجرمين}. والسلك: إدخال الشيء كالخيط في المخيط، وفيه دليل على أنه تعالى يخلق الباطل دليل على أنه تعالى يخلق الباطل في قلوبهم. وإذا سلك في قلوبهم التكذيب {لا يؤمنون به} أبداً. أو: نسلكه، أي: القرآن؛ مستهزءاً به، أي: مثل ذلك السلك نسلك الذكر في قلوب المجرمين؛ مُكَذَّباً غير مؤمن به، ثم هددهم على عدم الإيمان به، فقال: {وقد خلت سُنَّةُ الأولين} أي: تقدمت طريقتهم على هذه الحالة من الكفر والاستهزاء، حتى هلكوا بسبب ذلك، أو مضت سنته في الأولين بإهلاك من كذب الرسل منهم، فيكون وعيداً لأهل مكة.
{ولو فتحنا عليهم} أي: على هؤلاء المقترحين المعاندين من كفار قريش، {باباً من السماء فظلوا فيه يعرجُون}: يصعدون إليها، ويرون عجائبها طول نهارهم، لكذبوا، أو فظلت الملائكة يعرجون فيها وهم يشاهدونهم لقالوا؛ من شدة عنادهم وتشكيكهم في الحق: {إنما سُكِّرتْ}: حيرت {أبصارُنا}، فرأينا الأمر على غير حقيقته؛ من أجل السكر الذي أصابنا بالسحر.
ويحتمل أن يكون مشتقاً من السَكر بفتح السين، وهو السد، أي: سُدَّت أبصارنا، ومُنعنا من الرؤية الحقيقية. {بل نحن قوم مسحورون}؛ سحرنا محمد، كما قالوا عند ظهور غيره من الآيات. قال البيضاوي: وفي كلمتي الحصر والإضراب دلالة على جزمهم بأن ما يرونه لا حقيقة له، بل هو باطل خُيّل ما خيل لهم بنوع من السحر. اهـ. وذلك من فرط عنادهم، وشقاوتهم. والعياذ بالله.
الإشارة: هذا كله من قبيل التسلية لأهل الخصوصية، إذا قوبلوا بالإنكار والاستهزاء، فيرجعون إلى الله، والاكتفاء بعلمه، والاشتغال بالله عنه. وقد قال شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل رضي الله عنه: عداوة العدو حقاً هي اشتغالك بمحبة الحبيب، وأما إذا اشتغلت بعداوة العدو نال مراده منك، وفاتتك محبة الحبيب. وقال الولي الصالح سيدي أبو القاسم الخصاصي رضي الله عنه لبعض تلامذته: لا تشتغل قط بمن يؤذيك، واشتغل بالله يرده عنك، فإنه هو الذي حركه عليك، ليختبر دعواك في الصدق. وقد غلط في هذا الأمر خلق كثير اشتغلوا بإيذاء من آذاهم، فدام الأذى مع الإثم، ولو أنهم رجعوا إلى الله لردهم عنهم، وكفاهم أمرهم. اهـ.

.تفسير الآيات (16- 25):

{وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)}
يقول الحق جل جلاله: {ولقد جعلنا في السماء بروجاً}؛ اثني عشر برجاً، وهي: الحَمَل، والثور، والجَوْزاء، والسرطان، والأسد والسُّنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجَدْي، والدلو، والحوت، والبرج عبارة عن قطعة في الفلك تقطعها الشمس في شهر؛ فتقطع البروج كلها في سنة، ستة يمانية، وستة شمالية، وهي مختلفة الهيئات والخواص، على ما دل عليه الرصد والتجربة. وكل ذلك بقدرة المدبر الحكيم. قال تعالى: {وزيَّناها} بالأشكال والهيئات البهية {للناظرين} المعتبرين؛ ليستدلوا بها على قدرة مبدعها، وتوحيد صانعها. {وحفظها من كل شيطانٍ رجيمٍ}: مرجوم، فلا يقدر أن يصعد إليها ليسترق السمع منها، أو يوسوس أهلها، أو يتصرف في أمرها، أو يطلع على أحوالها.
{إلا من استَرَق السمعَ} أي: حفظناها من الشياطين، إلا من استرق منها. والاستراق: الاختلاس، رُوي أنهم يركبون بعضهم بعضاً حتى يصلوا إلى السماء، فيسمعون أخبار السماء من الغيب، فيخطف الجن الكلمة قبل الرمي فيلقيها إلى الكهنة، ويخلط معها مائة كذبة، كما في الصحيح. رُوي عن ابن عباس: أنهم كانوا لا يحجبون عن السماوات، فلما ولد عيسى عليه السلام مُنعوا من ثلاث سماوات، فلما وُلد محمد صلى الله عليه وسلم مُنعوا من كلها بالشهب. وقيل: الاستثناء منقطع، أي: ولكن من استرق السمع، {فأتبعه} لحقه {شهابٌ مبين}؛ ظاهر للمبصرين. والشهاب: شُعلة نار يقتبسها الملك من النجم، ثم يضرب به المسترق، وقيل: النجوم هي التي تضرب بنفسها، فإذا أصابت الشيطان فتلته أو خبلته فيصير غولاً.
ثم ذكر معجزة الأرض فقال: {والأرضَ مددناها}: بسلطناها، {وألقينا فيها رواسيَ}؛ جبالاً ثوابت، {وأنبتنا فيها}؛ في الأرض، أو فيها أو في الجبال {من كل شيء موزونٍ}؛ مقدر بمقدار معين تقتضيه حكمته. فالوزن مجاز، أو ما يكون يوزن حقيقة كالعشب النافعة، أو كالذهب والفضة وسائر الأطعمة. {وجعلنا لكم فيها معايش} تعيشون بها من المطاعم والملابس، {و} خلقنا لكم {من لستم له برازقين} من الولدان والخدمة والمماليك، وسائر ما تظنون أنكم ترزقونهم كاذباً؛ فإن الله يرزقكم وإياهم.
قال البيضاوي: وفذلكة الآية: الاستدلال بجعل الأرض ممدودة بمقدار معين، مختلفة الأحزاء في الوضع، محدثة فيها أنواع النباتات والحيوانات المختلفة خلقة وطبيعة، مع جواز ألا تكون كذلك؛ على كمال قدرته، وتناهي حكمته، والتفرد في ألوهيته، والامتنان على العباد بما أنعم في ذلك ليوحدوه ويعبدوه. ثم بالغ في ذلك فقال: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه} أي: وما من شيء إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه أضعاف ما وجد منه، فضرب الخزائن مثلاً لاقتداره أو شبه مقدوراته بالأشياء المخزونة التي لا يجوج إخراجها إلى كلفة واجتهاد. اهـ. قال ابن جزي: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنُه}؛ قيل: المطر، واللفظ أعم من ذلك، والخزائن: المواضع الخازنة، وظاهر هذا أن الأشياء موجودة قد خلقت. اهـ.
{وما نُنَزَّله} أي: نبرزه من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، {إلا بقَدَر معلوم}: بمقدار محدود في وقت معلوم اقتضته الحكمة وتعلقت به المشيئة، لا يزيد ولا ينقص على ما سبق به العلم.
{وأرسلنا الرياحَ لواقحَ}: حوامل للماء في أوعية السحاب، يقال: لقحت الناقة والشجرة إذا حملت، فهي لاقحة، وألْقَحَت الريحُ الشجرَ فهي ملقحة. ولواقح: جمع لاقحة، أي: حاملة، أو جمع ملقحة على حذف الميم الزائدة، فهي على هذا ملقحة للسحاب أو الشجر، ونظيره: الطوائح، بمعنى المطيحات في قوله:
ومُخْتَبِط مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ

والرياح أربعة: صَبَا، ودَبُور، وجَنوب، وشمال. والعرب تسمي الجنوب الحامل واللاقحة، وتسمى الشمال الحائل والعقيم. وفي البخاري: «نُصِرْتُ بالصِّبَا، وأُهْلكَتْ عَادٌ بالدُّبُور». وروي أبو هريرة رضي الله عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الرِّيحُ الجنوب من الجنة، وهي اللواقح التي ذكر الله، وفيها منافع للناس» وفي الحديث: «الرِّيحُ من نفس الرحمن» والإضافة هنا إضافة خلق إلى خالق، كما قال: {مِن رُّوحِي} [الحجر: 29]. ومعنى نفس الرحمن، أي: من تنفيسه وإزالة الكرب والشدائد، فمن التنفيس بالريح: النصر بالصبا، وذر الأرزاق بها، وجلب الأمطار، وغير ذلك مما يكثر عده. قاله ابن عطية.
والمختار في تفسير اللواقح: أنها حاملة للماء، قوله: {فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه} أي: جعلنا لم سقيا. يقال: سقى وأسقى بمعنى واحد عند الجمهور. {وما أنتم له بخازنين}: بممسكين له في الجبال، والغدران، والعيون، والآبار، فتخرجونه متى شئتم، بل ذلك من شأن المدبر الحكيم، فإن طبيعة الماء تقتضي الغور، فوقوفه دون حد لابد له من مسبب مخصص، وجريه بلا انتهاء لا يكون إلا بقدرة السميع العليم، الذي لا تتناهى قدرته. أو: {وما أنتم له بخازنين}؛ بقادرين متمكنين من إخراجه وقت الاحتياج إليه. نفى عنهم ما أثبته لنفسه بقوله: {عندنا خزائنُه}.
{وإنا لنحن نُحيي ونُميت} أي: نحيي من نريد إحياءه بإيجاد الحياة فيه، ونميت من نريد إماتته بإزالة الحياة منه. وقد أول الحياة بما يعم الحيوان والنبات. وتكرير الضمير؛ للدلالة على الحصر. {ونحن الوارثون}: الباقون إذا مات الخلائق كلهم.
{ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين} أي: علمنا من تقدم؛ ولادةً، ومن تأخر، أو من خرج من أصلاب الرجال ومن لم يخرج بعدُ، أو من تقدم إلى الإسلام والجهاد وسبق إلى الطاعة، ومن تأخر، لا يخفى علينا شيء من أحوالكم. وهو بيان لكمال علمه بعد الاحتجاج على كمال قدرته، فإنَّ ما يدل على كمال قدرته دليل على كمال علمه. وقيل: رغّب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصف الأول، فازدحموا عليه، فنزلت، وقيل: إن امرأة حسناء كانت تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه، فتقدم بعض القوم؛ لئلا ينظر إليها، وتأخر بعض؛ ليبصرها، فنزلت.
قاله البيضاوي: {وإن ربك هو يحشرهم} لا محالة للجزاء، كأن هذا هو الغرض من ذكر العلم بالمتقدمين والمتأخرين؛ لأنه إذا أحاط بهم علماً لم تصعب عليه إعادتهم وحشرهم. {إنه حكيمٌ} باهر الحكمة، {عليم}؛ واسع العلم والإحاطة بكل معلوم. قال البيضاوي: وفي توسيط الضمير يعني في قوله: {هو يحشرهم}؛ للدلالة على أنه القادر والمتولي لحشرهم لا غيره، وتصدير الجملة بأن؛ لتحقيق الوعيد والتنبيه على أن ما سبق من الدلالة على كمال قدرته وعلمه بتفاصيل الأشياء يدل على صحة الحكم. اهـ.
الإشارة: ولقد جعلنا في سماء قلوب العارفين بروجاً، وهي المقامات التي ينزلون فيها بشموس عرفانهم، وهي: التوبة، والخوف، والرجاء، والورع، والزهد، والصبر، والشكر، والرضى، والتسليم، والمحبة، والمراقبة، والمشاهدة. وزيناها للناظرين؛ أي: السائرين حتى يقطعوها جملة محمولين بعناية الجذب، حتى يَحلو لهم ما كان مُراً على غيرهم، وحفظنا سماء قلوبهم من طوارق الشيطان، إلا ما كان طيفاً خيالياً لا يثبت، بل يتبعه شهاب الذكر فيحرقه، وأرضَ النفوس مددناها لقيام رسم العبودية، وظهور عالم الحكمة وآثار القدرة، وألقينا فيها جبال العقول الرواسي، لتعرف الرب من المربوب الذي اقتضته الحكمة. وأنبتنا فيها من العلوم الرسيمة والعقلية، ما قدر لها في العلم المكنون، وجعلنا لكم فيها من علم اليقين، وحق اليقين ما تتقوت به قلوبكم، وتعيش به أرواحكم وأسراركم، وتعولون به من لستم له برازقين من المريدين السائرين.
سُئل سهل رضي الله عنه عن القوت، فقال: هو الحي الذي لا يموت، فقيل: إنما سألناك عن القوام. فقال: القوام هو العلم، فقيل: سألناك عن الغذاء، فقال: الغذاء هو الذكر، فقيل: سألناك عن طعام الجسد، فقال: ما لَكَ وللجسد، دع من تولاَّه أولاً يتولاه آخراً، إذا دخلت عليه علة رده إلى صانعه، أما رأيت الصنعة إذا عيبت ردوها إلى صانعها حتى يصلحها. وأنشدوا:
يَا خادِمَ الجِسْمِ كَمْ تَشْقَى بِخِدْمَتِهِ ** وتَطلُب الربْحَ مما فيه خُسْرَانُ

عليك بالنفسِ فاستكمل فَضِِيلَتَهَا ** فأنت بالنفس لا بالجسم إنسانُ

واستكمال فضيلة النفس هو تزكيتها وتحليتها حتى تشرق عليها أنوار العرفان، وتخرج من سجن الأكوان. وبالله التوفيق. ثم قال تعالى: {وإن من شيء} من الأرزاق المعنوية والحسية، أو العلوم اللدنية، والفتوحات القدسية {إلا عندنا خزائنه}؛ فمن توجه بكليته إلينا فتحنا له خزائن غيبنا، وأطلعناه على مكنون سرنا شيئاً فشيئاً، {وما نُنزله إلا بقدر معلوم}. وقال الورتجبي: عِلْم الإشارة في الآية: دعوة العباد إلى حقائق التوكل، وهي: قطع الأسباب، والإعراض عن الأغيار، قيل: كان الجنيد رضي الله عنه إذا قرأ هذه الآية: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه}، قال: فأين تذهبون؟. وقال حمدون: قطع أطماع عبيدهِ سواه بقوله: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه}، فمن رفع بعد هذا حاجته إلى غيره، فهو لجهله ولؤمه. اهـ.
وأرسلنا رياح الهداية لواقح، تلقح الطمأنينة والمعرفة في قلوب المتوجهين، وتلقح اليقين والتوفيق في قلوب الصالحين، وتلقح الإيمان والهداية في قلوب المؤمنين، فأنزلنا من ساء الغيب ماء العلم اللدني، فأسقيناكموه على أيدي وسائط الشيوخ، أو بلا واسطة، وما أنتم له بخازنين، بل يفيض على قلوبكم عند غلبة الحال، أو لهداية مريد، أو عند الاحتياج إليه عند استفتاح القلوب، وإنا لنحن نُحيي قلوباً بالمعرفة واليقين ونميت قلوباً بالجهل والكفر، ونحن الوارثون؛ لبقاء انوارنا على الأبد. ولقد علمنا المستقدمين منكم إلى حضرة قدسنا بالاستعداد، وإعطاء الكلية من نفسه، ولقد علمنا المستأخرين عنها بسبب ضعف همته، وإن ربك هو يحشرهم؛ فيُقرب قوماً لسبقهم، ويبعد آخرين لتأخرين. إنه حكيم عليم.